الإرهاب في أوروبا- تسييس الجرائم واستغلالها لخدمة السياسات

في مساء يوم الجمعة، الموافق 30 أغسطس/آب المنصرم، أفادت الشرطة الألمانية بوقوع حادث مأساوي تمثل في عملية طعن على متن حافلة في مدينة زيغن بغرب ألمانيا، أسفر عن إصابة ستة أشخاص على الأقل، ثلاثة منهم في حالة حرجة.
ووفقًا لوكالة الأنباء الألمانية، فقد تمكنت الشرطة من إلقاء القبض على امرأة يشتبه في ارتكابها هذا العمل الشنيع، تبلغ من العمر 32 عامًا. ووقعت الجريمة بينما كان ما لا يقل عن 40 راكبًا متوجهين على متن الحافلة إلى مهرجان يقام في مدينة زيغن، التي تبعد حوالي 75 كيلومترًا إلى الشرق من مدينة كولونيا. ووقع الهجوم في حوالي الساعة الثامنة مساءً، حسبما ورد في بيان الشرطة.
أبلغ العديد من الركاب رجال الشرطة بالحادث، مما أدى إلى سرعة تدخلهم وإلقاء القبض على المرأة، التي تبين أنها مواطنة ألمانية. وحتى الآن، لم يتم الكشف عن الدافع وراء هذه الجريمة المروعة، وأكدت الشرطة أنه لا توجد أي معلومات تشير إلى أن الهجوم كان ذا طبيعة إرهابية. ومع ذلك، ذكرت صحيفة "بيلد" الألمانية أن المرأة التي نفذت الهجوم ربما كانت تعاني من بعض المشكلات المتعلقة بالصحة العقلية.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الحادثة المأساوية تأتي بعد أسبوع واحد فقط من حادثة طعن دامية أخرى شهدتها مدينة زولينغن الواقعة أيضًا في غرب ألمانيا، حيث قام مهاجم يحمل سكينًا بقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ثمانية آخرين بجروح خطيرة خلال أحد المهرجانات التي أقيمت في شوارع المدينة. وتمكنت السلطات من القبض على المشتبه به، وهو مواطن سوري يبلغ من العمر 26 عامًا. وقد صرح هندريك فوست، رئيس حكومة ولاية شمال الراين – ويستفاليا الألمانية، بأن هذا الهجوم يُصنف ضمن خانة "العمل الإرهابي".
وقد أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مسؤوليته عن الجريمة المذكورة، حيث نشر التنظيم عبر وكالة "أعماق" التابعة له على تطبيق تليغرام بيانًا يتبنى فيه الهجوم. ومع ذلك، لا تزال السلطات الألمانية تجري تحقيقات مكثفة للتأكد من صحة هذا الادعاء، على الرغم من تصنيفها للحادثة في إطار الإرهاب.
ووفقًا لآراء خبراء متخصصين في مجال الإرهاب، فإن هذا التبني يُعد الأول من نوعه الذي يعلنه التنظيم للمسؤولية عن هجوم في ألمانيا منذ عام 2016. ففي ذلك العام، نفذ التونسي أنيس العمري هجومًا مروعًا باستخدام شاحنة لدهس حشد من الأشخاص في سوق عيد الميلاد بساحة برايتشايد بلاتس في برلين في شهر ديسمبر/كانون الأول، مما أسفر عن مصرع 13 شخصًا وإصابة العشرات بجروح بالغة.
على الرغم من وجود تشابه ظاهري بين الحادثتين في طريقة تنفيذ الجريمة وفي المنطقة التي تشهد العديد من الاحتفالات، إلا أن التقارير الأمنية التي صدرت بشأنهما جاءت متباينة بشكل ملحوظ. والأمر الذي يثير الدهشة والاستغراب هو الطريقة التي تعامل بها الإعلام مع سير التحقيقات والسرعة في توجيه الاتهامات بين الحادثتين. ففي الغالب الأعم، تصنف التقارير الأمنية الجرائم التي يرتكبها المواطنون الأصليون في البلاد، سواء كانوا من الجنسية الألمانية أو من أي بلد أوروبي آخر، على أنها مجرد حوادث فردية ناتجة عن دوافع نفسية أو عصبية مضطربة، وذلك في محاولة لتبرير الفعل أو على الأقل لعدم تعميمه. ويرتبط هذا الأمر بشكل وثيق بحرب الثقافات الشرسة التي تشهدها الساحة الدولية في الوقت الراهن، لا سيما بعد إعلان التحالف الصيني-الروسي القوي ومحاربتهما للقيم الغربية التي يعتبرانها منافية للأخلاق وغير قابلة للتطبيق في بلديهما.
يعد صراع القيم جزءًا لا يتجزأ من الصراع الدائر بين الدول، ويتخذ أشكالًا متعددة ومتنوعة، منها الأشكال العسكرية التقليدية ومنها الأشكال القيمية والمعنوية. ويتضح هذا الأمر جليًا في الطريقة التي يتعامل بها الغرب مع منفذي الجرائم، سواء كانوا من الغربيين أنفسهم أم من المهاجرين الذين يحملون جنسية البلاد. ولهذا السبب، نجد أن الإعلام والتقارير الإعلامية تتجنب في الغالب وصفهم بالإرهابيين، حيث أصبحت هذه الصفة مقتصرة بشكل شبه كامل على المسلمين فقط، وذلك بسبب حالة "الإسلاموفوبيا" المتزايدة التي بدأت الحكومات الغربية، سواء كانت يسارية أو يمينية، في نشرها وترسيخها في المجتمعات. فبمجرد أن يرتكب أي شخص عربي (مسلم) جريمة ما، يسارع الإعلام إلى تعميمها واعتبار أن الدافع وراءها هو دافع إرهابي بحت.
إن إطلاق صفة "الإرهاب" لم يعد مرتبطًا فقط بالأعمال الإجرامية التي يرتكبها الأشخاص غير الأوروبيين، بل أصبحت هذه الكلمة جزءًا لا يتجزأ من قاموس الحضارة الغربية، وباتت ملاصقة لكل من يرفض تطبيق القيم التي تسعى الدول الأوروبية جاهدة إلى فرضها ونشرها تحت مسمى "القيم الغربية"، وعلى رأسها "زواج المثليين" وقضية "الجندر". وهذا ما دفع بعض الحكومات الغربية، وعلى رأسها حكومة بريطانيا، إلى وضع خطط تفصيلية لترحيل المهاجرين إلى دولة رواندا.
يبدو أن الغرب في أمس الحاجة إلى تبني تنظيم الدولة الإسلامية لهذه العمليات الإجرامية، خاصة وأنه لم يتبنَّ أي هجوم في أوروبا منذ عام 2016. وهذا يعتبر دليلًا قاطعًا على تسييس الجرائم واستغلالها لتحقيق أهداف سياسية معينة حسب الحاجة. فجريمة زولينغن لا تقل بشاعة وإجرامًا عن جريمة زيغن، ولكن ما يميزها هو تبني التنظيم للعملية، والذي تزامن مع كشف واشنطن وبغداد عن غارة جوية مشتركة استهدفت مواقع لمسلحي التنظيم في الصحراء الغربية بالأنبار، وأسفرت عن إصابة عدد من الجنود الأميركيين. وأكدت مصادر مطلعة أن المنطقة كانت تحت المراقبة الدقيقة منذ عدة أشهر.
وأفادت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، التي يشمل نطاق عملياتها منطقة الشرق الأوسط بأكملها، بأنها نفذت بالاشتراك مع القوات العراقية "غارة جوية دقيقة في غرب العراق في الساعات الأولى من يوم 29 أغسطس/آب المنصرم، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 15 عنصرًا من تنظيم الدولة الإسلامية".
"حسب الطلب"، هذا هو الوصف الأدق لما ينطبق اليوم على تبني تنظيم الدولة الإسلامية للأعمال الإجرامية التي تحدث في مختلف دول أوروبا. فالموضوع برمته مرتبط بشكل وثيق بإعطاء صفة "الشرعية" و"الضرورة" لبقاء القوات الأميركية والغربية في كل من سوريا والعراق.
وفي هذا السياق، أكد إيثان غولدريتش، مساعد نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى والمسؤول عن الملف السوري في وزارة الخارجية الأميركية، أن القوات الأميركية لن تنسحب من سوريا والعراق في الوقت الراهن، نافيًا وجود أي خطط لدى إدارة الرئيس جو بايدن لسحب هذه القوات من المنطقة.
تحتاج الولايات المتحدة بشدة إلى إبقاء جنودها في المنطقة، لا سيما بعد دخول الكيان الإسرائيلي في حرب كبرى في المنطقة. وكان التحالف الغربي قد اتخذ ذريعة التدخل في المنطقة لنهب خيراتها وثرواتها الطبيعية وفرض سيطرته المطلقة عليها، وحماية أمن إسرائيل منذ عام 2014.
"صراع الحضارات"، تلك هي الرؤية الشهيرة التي وضعها المفكر الأميركي البارز صمويل هنتنغتون في عام 1993، والذي اعتبر فيها أن سقوط الأيديولوجيات الكبرى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سيخلق مساحة أوسع لصعود صراع القيم الذي تتشكل منه الحضارات المختلفة، والتي صنفها إلى حضارات غربية وشرقية وصينية وغيرها.
لم يعد الأمر مرتبطًا بنوع الجريمة المرتكبة أو الدافع الحقيقي وراءها، بل أصبح يتعلق بشكل أساسي بتحقيق السياسات الخارجية للدول الأوروبية، والتي تتضمن تشويه صورة المسلمين وإلصاق تهمة "الإرهاب" بكل من يقوم بأي عمل يخالف القانون. وفي الوقت نفسه، لم يتجرأ أحد حتى الآن من قادة هذه الدول على إدانة إسرائيل على جميع الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
لقد أصبح الإرهاب مجرد "وجهة نظر" بالنسبة إلى الغرب، وهو الأمر الذي استغلته الأحزاب اليمينية المتطرفة أسوأ استغلال، وبدأت تستثمره بفاعلية في تحقيق مكاسب انتخابية وشعبية كبيرة. فكما شكل التحالف اليميني المتطرف في فرنسا وإيطاليا والسويد وغيرها من الدول الأوروبية حالة من التغيير الجذري في نتائج الانتخابات، فقد وصلت هذه العدوى أيضًا إلى ألمانيا.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي العام التي أجريت قبل الانتخابات التشريعية التي جرت يوم الأحد الموافق 1 سبتمبر/أيلول الجاري، تقدم حزب البديل من أجل ألمانيا (أقصى اليمين) واحتلاله للمركز الأول في ولاية تورينغن. إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا بشكل عام سيؤدي حتمًا إلى إحداث تغييرات جوهرية في هوية القارة العجوز، التي تسعى جاهدة إلى تحقيق الانفصال التام عن الولايات المتحدة، بهدف إحداث حالة من الاستقلالية الكاملة في النظام العالمي الجديد. ولهذا السبب، تعمل أميركا بكل ما أوتيت من قوة على توريط أوروبا بشكل أكبر في حربها مع روسيا؛ بهدف تطويق التيار اليميني المتطرف الصاعد وتقويض نفوذه.
لا يمكن بأي حال من الأحوال ربط الإرهاب بالأعمال التي يقوم بها المسلمون أو المهاجرون بشكل عام، بل يجب بدلاً من ذلك التركيز على المضايقات العنصرية المتزايدة ومعالجتها بشكل فعال قبل أن تتحول أوروبا إلى ساحة لصراعات دامية لا نهاية لها. كما أن توقف الغرب عن تقديم الدعم اللامحدود لإسرائيل، التي ترتكب جرائم إبادة جماعية في المنطقة، سيساعد بشكل كبير على التقريب بين القيم وتعزيز التفاهم المتبادل، وهذا هو عين المطلوب.